رمضانُ والقرآنُ
صفحة 1 من اصل 1
رمضانُ والقرآنُ
الكاتب: محمَّد عمر دولة
1- مقدِّمة:
روى البخاري في كتاب (الصَّوم) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:«كان النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أجْوَدَ النَّاسِ، وأجْوَدُ ما يكونُ في رَمَضانَ، حين يَلْقاهُ جِبريلُ، وكان جِبريلُ -عليهِ السَّلامُ- يَلْقاهُ في كُلِّ ليلةٍ مِن رمضانَ فيُدارِسُه القُرآنَ، فلَرسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أجْوَدُ بالخيْرِ مِن الرِّيحِ المُرسَلَةِ»[1]، فالقرآنُ غذاءُ الأرواح وشفاءُ القلوب؛ "فلا شيءَ أنفعَ للقلبِ من قراءةِ القرآن بالتَّدبُّر والتَّفكُّر؛ فإنَّه جامعٌ لجميعِ منازل السَّائرين وأحوالِ العاملين ومقامات العارفين، وهو الَّذي يُورث المحبَّة والشَّوقَ والخوفَ والرَّجاءَ والإنابةَ والتَّوكُّل والرِّضا والتَّفويض والشُّكر والصَّبر وسائر الأحوال الَّتي بها حياةُ القلب وكمالُه"[2].
2- رمضانُ والقرآن:
قالابن حجر شارحًا حديث ابنِ عباس -رضي الله عنهما-:«وأجْوَدُ ما يكونُ في رَمَضانَ، حين يَلْقاهُ جِبريلُ» "قيل: الحكمةُ في ذلك: أنَّ مدارسةَ القرآنِ؛ تُجدِّدُ له العهدَ بمزيدِ غِنَى النَّفس، والغنى سببُ الجود.. وأيضًا فرمضان موسمُ الخيرات؛ لأنَّ نِعَمَ الله على عبادِهِ فيه زائدةٌ على غيرِهِ؛ فكان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُؤثِرُ متابعةَ سنَّةِ اللهِ على عبادِهِ؛ فمجموعُ ما ذُكِرَ من الوقتِ والمنزولِ به والنَّازلِ والمذاكرة؛ حصل المزيد من الجود"[3].
وقالابنُ رجب -رحمه الله تعالى-: "في تضاعف جودِهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في شهر رمضان بخصوصِهِ فوائدُ كثيرةٌ: منها شرفُ الزَّمانِ ومضاعفة أجرِ العمل فيه"[4] "فإنَّه كان يلتقي هو وجبريل -عليه السَّلام- وهو أفضلُ الملائكة وأكرمُهم، ويدارسه الكتابَ الَّذي جاء به إليه، وهو أشرفُ الكتب وأفضلُها، وهو يحثُّ على الإحسانِ ومكارمِ الأخلاق، وقد كان رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا الكتابُ له خُلُقًا... فلهذا كان يتضاعف جودُه وإفضالُه في هذا الشَّهر؛ لقرب عهدِهِ بمخالطةِ جبريل -عليه السَّلام- وكثرة مدارستِه له هذا الكتاب الكريم الَّذي يحثُّ على المكارم والجود؛ ولا شك أنَّ المخالطة تؤثِّر وتُورث أخلاقًا منَ المخالطةِ كان بعضُ الشُّعراء قد امتدحَ ملِكًا جوادًا فأعطاه جائزةً سَنِيَّةً؛ فخرج بها من عِنْدِهِ وفرَّقَها كلَّها على النَّاسِ وأنشد:
لمستُ بكفِّي كفَّهُ أبتغي الغنى***ولم أدرِ أنَّ الجودَ من كفِّهِ بعدي
فبلغ ذلك الملك، فأضعفَ له الجائزة، وقد قال بعضُ الشعراء يمتدح بعضَ الأجواد، ولا يصلح ذلك إلا لرسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
تَعَوَّدَ بسطَ الكفِّ حتى لوَ أنَّهُ***ثناها لقبضٍ لم تُجِبْهُ أناملُهْ
تَـراه إذا ما جئتَـهُ متهلِّلًا***كأنَّك تُعطِيهِ الَّذي أنت سائلُهْ
هو البحرُ من أيِّ النَّواحي أتيتَهُ***فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِّهِ غيرُ روحِهِ***لجادَ بِها فلْيتَّقِ اللهَ سائلُهْ"[5]
3- القرآن حبلُ الله المتين:
لا ريبَ أنَّ القرآنَ المجيدَ من أعظم النِّعم الَّتي حبا اللهُ بها أهلَ الإسلام، فهو{يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[6] كما قال الله -عزَّ وجلَّ-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿57﴾ قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[7].
وقد بشَّر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلَّم- المتمسِّكين بالقرآن بالعزّةِ في الدُّنيا والآخرة، كما جاء في حديث عمر -رضي الله عنه- عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال:«إنَّ اللهَ يرفع بهذا الكتابِ أقوامًا ويضع به آخرين»[8] وفي حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول:«اقرؤوا القرآن فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»[9].
4- القرآن والتِّجارةُ الرَّابحة:
قال الله -عزَّ وجلَّ-:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴿29﴾ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[10]، وحسبُ المرءِ دلالةً على جلالة شأن القرآن ما أرشد إليه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ تلاوةَ القرآنِ والعملَ بهِ من أعظم القُرُبات الَّتي يُغبَطُ عليها المؤمن، فقد روى ابنُ عمر -رضي الله عنهما- عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال:«لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناءَ الليل وآناءَ النَّهار، ورجلٌ آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناءَ الليل وآناءَ النَّهار»[11].
فحذار من تضييع هذه التِّجارة الرَّابحة، كما قالالقرطبي: "ألا وإنَّ الحجةَ على مَن علِمَه فأغفله أوكدُ منها على من قصَّر عنه وجهِلَه؛ ومَن أُوتِيَ علمَ القرآنِ فلم ينتفعْ، وزجرَتْهُ نواهيهِ فلم يرتدعْ، وارتكب من الإثمِ قبيحًا، ومن الجرائم فضوحًا؛ كان القرآنُ حجةً عليه وخصماً لديه، قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:«والقرآن حجَّةٌ لك أو عليك» خرَّجه مسلم 223" [12].
5- فضل الإنصات إلى القرآن:
لا شكّ أنّ "الاستماع والإنصات مراتبُ بحسب مراتب المستمعين"[13] فقد روى البخاري في كتاب (التَّفسير) وفي (فضائل القرآن) باب (من أحبَّ أن يستمعَ القرآنَ من غيره) عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:«اقرأ عليَّ، قلت: يا رسول الله، آقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: نعم، فقرأت سورة النِّساء حتَّى أتيت إلى هذه الآية:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان»[14].
وفي باب (البكاء عند قراءة القرآن) من (فضائل القرآن) قال -صلَّى الله عليه وسلَّم:«فإنِّي أحبُّ أن أسمعه من غيري»[15].
وقالابن بطَّال: "يحتمل أن يكون أحبَّ أن يسمعه من غيره؛ ليكون عرض القرآن سنةً، ويحتمل أن يكون لكي يتدبُّره ويتفهَّمه؛ وذلك أنَّ المستمع أقوى على التدبُّر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القاريء؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها" [16].
6- متى ننتفعُ بالقرآن؟
قالابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: "إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآن؛ فاجمعْ قلبَكَ عند تلاوتِهِ وسماعِه، وألْقِ سَمْعَكَ، واحضرْ حضورَ مَن يخاطبه به مَن تكلَّم به -سبحانه- منه إليه؛ فإنه خطابٌ منه لك على لسان رسولِه، قال -تعالى-:{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[17] وذلك أنَّ تمام التَّأثير لمَّا كان موقوفًا على مؤثِّرٍ مُقْتَضٍ ومحلٍّ قابلٍ وشرطٍ لحصول الأثر وانتفاء المانع الَّذي يمنع منه؛ تضمَّنت الآية بيانَ ذلك كلِّه بأوجز لفظٍ وأبْيَنِهِ وأدَلِّهِ عن المُراد. فقولُهُ:{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ} إشارةٌ إلى ما تقدَّم من أوَّل السُّورة إلى هاهنا وهذا هو المؤثِّر، وقولُهُ:{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فهذا هو المحلُّ القابلُ، والمراد به القلبُ الحيُّ الَّذي يعقل عن الله كما قال -تعالى-: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴿69﴾ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا}[18] أي حيّ القلب. وقوله:{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي: وجّه سمعَه وأصغى حاسّةَ سمعِهِ إلى ما يُقال له؛ وهذا شرطُ التأثُّر بالكلام. وقولُه:{وَهُوَ شَهِيدٌ} أي شاهدُ القلب، حاضرٌ غيرُ غائبٍ، قالابن قتيبة: "استمع كتابَ الله وهو شاهدُ القلبِ والفهمِ، ليس بغافلٍ ولا ساهٍ، وهو إشارةٌ إلى المانع من حصول التَّأثير، وهو سَهْوُ القلب وغفلتُهُ عن تعقُّلٍ ما يُقالُ له والنظرِ فيه وتأمُّلِهِ، فإذا حصل المؤثِّرُ: وهو القرآنُ، والمحلُّ القابلُ: وهو القلبُ الحيُّ، ووُجِد الشرطُ: وهو الإصغاءُ، وانتفى المانعُ: وهو اشتغالُ القلبِ وذهولُهُ عن معنى الخطابِ وانصرافُهُ عنه إلى شيءٍ آخر؛ حصل الأثرُ: وهو الانتفاعُ والتذكُّر"[19].
7- استماعُ القلوبِ
لقد صرَّح القرآنُ بأنَّ منَ القلوب ما لا يبلغها نورُ الآيات؛ لأنَّ عليها غطاءً وطابعًا، كما قال الله -تعالى-:{لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}[20]، وقال -جلَّ جلاله-:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[21].
وقال -تبارك وتعالى-:{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}[22]، وقال -سبحانه-:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}[23].
وقالابن الجوزي: "ذكر أهلُ التَّفسير أنَّ السَّماع في القرآن على وجهين: أحدهما: إدراكُ السَّمعِ للمسموعات، ومنه قولُه -تعالى- في آل عمران:{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي}[24]، والثَّاني: سماعُ القلب: وهو قبولُه للمسموع، ومنه قولُه -تعالى- في سورة هود:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}[25] وفي الكهف[26]:{وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}[27].
8- بُشرى المستمِع العامل بالقرآن:
كما قال الله -تبارك وتعالى-:{فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[28] قال الشّيخابن عاشور: "دلَّ ثناءُ الله على عباده المؤمنين الكُمَّل: بأنَّهم أحرزوا صفة اتباع أحسنَ القولِ الَّذي يسمعونه على شرف النَّظر والاستدلال؛ للتَّفرقة بين الحقِّ والباطل، وللتَّفرقة بين الصَّواب والخطأ، ولغلق المجال في وجه الشُّبهة ونفي تلبُّس السَّفسطة"[29].
وكذلك قولُه -جل جلالُه-:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿29﴾ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿30﴾ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّـهِ..}[30].
9- كيف ننصحُ لكتابِ الله:
قالالإمام النَّووي -رحمه الله-: "قد أوجب الله -سبحانه وتعالى- النُّصح لكتابه، ومنَ النَّصيحة له بيان آداب حَمَلَته وطلّابه، وإرشادهم إليها، وتنبيههم عليها"[31]. وزاد في شرح مسلم استيعابًا فقال: "أمَّا النَّصيحة لكتابه -سبحانه وتعالى-: فالإيمان بأنَّه كلام الله -تعالى- وتنزيله لا يشبهه شيءٌ من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثمَّ تعظيمه وتلاوته حقَّ تلاوته وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التِّلاوة، والذَّبُّ عنه لتأويل المحرِّفين وتعرض الطَّاعنين، والتَّصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهّم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتَّفكُّر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتَّسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدُّعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته"[32].
10- تدبُّرُ القرآن:
وهذا التَّدبُّر لا يتأتَّى لنفاستِهِ وعُلُوِّ شأنِهِ إلا لمن آتاه اللهُ علمًا وصلاحًا؛ فعلى قدرِ ذلك يكون تدبُّرُه لكتابِ الله -عزَّ وجلَّ، كما قالالطَّبري: "إنِّي لأعجبُ ممَّن قرأ القرآنَ ولم يعلمْ تأويلَه؛ كيف يلتذُّ به؟"[33]، وقالالزّركشي: "مَنْ لم يكنْ له علمٌ وفهمٌ وتقوًى وتدبُّر؛ لم يُدركْ من لذَّةِ القرآنِ شيئًا"[34].
فعلى الصَّائم أن يتدبَّرَ الآياتِ، ويبكي عند الوعيدِ والعِظاتِ، ويخشعَ عند التَّلاوة، ويجدُّ في تحصيلِ حلاوةِ المناجاة، ويُكثِر منَ التَّضرُّعِ والبكاء؛ فالبكاء كما قالالنَّووي -رحمه الله-: "صفة العارفين، وشعارُ عبادِ اللهِ الصَّالحين؛ قال الله -تعالى-: { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109][35].
----------------------------------------
[1] متَّفقٌ عليه واللفظ للبخاري 3554.
[2] مفتاح دار السَّعادة لابن القيم ص 221. نقلا عن تدبر القرآن سلمان بن عمر السّنيدي ص 19. ط1. 1422.
[3] المرجع السَّابق 1/44-45.
[4] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 186-188.
[5] المرجع السَّابق ص 185-186.
[6] سورة الإسراء: 9.
[7] سورة يونس: 57-58.
[8] رواه مسلم 817.
[9] الحديث في صحيح مسلم 804.
[10] فاطر 29-30.
[11] رواه الشَّيخان.
[12] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/2. مكتبة الغزالي دمشق.
[13] تفسير التحرير والتنوير 9/239. للشيخ محمد الطاهر بن عاشور. دار سحنون للنشر والتوزيع. تونس.
[14] رواه البخاري 5050.
[15] رواه البخاري 4582.
[16] الفتح10/121.
[17] سورة ق: 37.
[18] سورة يس: 69-70.
[19] الفوائد لابن القيّم ص 9-10. دار الكتب العلميّة بيروت. ط6. 1420 هـ.
[20] سورة الأعراف: 100.
[21] سورة الأعراف: 179.
[22] سورة فُصِّلت: 4.
[23] سورة فصّلت: 44.
[24] سورة آل عمران: 193.
[25] سورة هود: 20.
[26] الكهف: 101.
[27] نزهة الأعين النَّواظر في علم الوجوه والنَّظائر لابن الجوزي ص 346 مؤسسة الرِّسالة ط1 1405 هـ.
[28]سورة الزُّمر: 17-18.
[29] تفسير التَّحرير والتَّنوير23/367.
[30] سورة الأحقاف: 29-31.
[31] التّبيان في آداب حَمَلَة القرآن ص5.
[32] شرح النَّووي على مسلم 2 / 38 39.
[33] معجم الأدباء 18/63. نقلًا عن تدبُّر القرآن للسّنيدي ص 4.
[34] البرهان في علوم القرآن للزّركشي 2/171. دار الفكر بيروت. ط1. 1408 هـ.
[35] التّبيان ص 45-46.
1- مقدِّمة:
روى البخاري في كتاب (الصَّوم) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:«كان النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أجْوَدَ النَّاسِ، وأجْوَدُ ما يكونُ في رَمَضانَ، حين يَلْقاهُ جِبريلُ، وكان جِبريلُ -عليهِ السَّلامُ- يَلْقاهُ في كُلِّ ليلةٍ مِن رمضانَ فيُدارِسُه القُرآنَ، فلَرسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أجْوَدُ بالخيْرِ مِن الرِّيحِ المُرسَلَةِ»[1]، فالقرآنُ غذاءُ الأرواح وشفاءُ القلوب؛ "فلا شيءَ أنفعَ للقلبِ من قراءةِ القرآن بالتَّدبُّر والتَّفكُّر؛ فإنَّه جامعٌ لجميعِ منازل السَّائرين وأحوالِ العاملين ومقامات العارفين، وهو الَّذي يُورث المحبَّة والشَّوقَ والخوفَ والرَّجاءَ والإنابةَ والتَّوكُّل والرِّضا والتَّفويض والشُّكر والصَّبر وسائر الأحوال الَّتي بها حياةُ القلب وكمالُه"[2].
2- رمضانُ والقرآن:
قالابن حجر شارحًا حديث ابنِ عباس -رضي الله عنهما-:«وأجْوَدُ ما يكونُ في رَمَضانَ، حين يَلْقاهُ جِبريلُ» "قيل: الحكمةُ في ذلك: أنَّ مدارسةَ القرآنِ؛ تُجدِّدُ له العهدَ بمزيدِ غِنَى النَّفس، والغنى سببُ الجود.. وأيضًا فرمضان موسمُ الخيرات؛ لأنَّ نِعَمَ الله على عبادِهِ فيه زائدةٌ على غيرِهِ؛ فكان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يُؤثِرُ متابعةَ سنَّةِ اللهِ على عبادِهِ؛ فمجموعُ ما ذُكِرَ من الوقتِ والمنزولِ به والنَّازلِ والمذاكرة؛ حصل المزيد من الجود"[3].
وقالابنُ رجب -رحمه الله تعالى-: "في تضاعف جودِهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في شهر رمضان بخصوصِهِ فوائدُ كثيرةٌ: منها شرفُ الزَّمانِ ومضاعفة أجرِ العمل فيه"[4] "فإنَّه كان يلتقي هو وجبريل -عليه السَّلام- وهو أفضلُ الملائكة وأكرمُهم، ويدارسه الكتابَ الَّذي جاء به إليه، وهو أشرفُ الكتب وأفضلُها، وهو يحثُّ على الإحسانِ ومكارمِ الأخلاق، وقد كان رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- هذا الكتابُ له خُلُقًا... فلهذا كان يتضاعف جودُه وإفضالُه في هذا الشَّهر؛ لقرب عهدِهِ بمخالطةِ جبريل -عليه السَّلام- وكثرة مدارستِه له هذا الكتاب الكريم الَّذي يحثُّ على المكارم والجود؛ ولا شك أنَّ المخالطة تؤثِّر وتُورث أخلاقًا منَ المخالطةِ كان بعضُ الشُّعراء قد امتدحَ ملِكًا جوادًا فأعطاه جائزةً سَنِيَّةً؛ فخرج بها من عِنْدِهِ وفرَّقَها كلَّها على النَّاسِ وأنشد:
لمستُ بكفِّي كفَّهُ أبتغي الغنى***ولم أدرِ أنَّ الجودَ من كفِّهِ بعدي
فبلغ ذلك الملك، فأضعفَ له الجائزة، وقد قال بعضُ الشعراء يمتدح بعضَ الأجواد، ولا يصلح ذلك إلا لرسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
تَعَوَّدَ بسطَ الكفِّ حتى لوَ أنَّهُ***ثناها لقبضٍ لم تُجِبْهُ أناملُهْ
تَـراه إذا ما جئتَـهُ متهلِّلًا***كأنَّك تُعطِيهِ الَّذي أنت سائلُهْ
هو البحرُ من أيِّ النَّواحي أتيتَهُ***فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِّهِ غيرُ روحِهِ***لجادَ بِها فلْيتَّقِ اللهَ سائلُهْ"[5]
3- القرآن حبلُ الله المتين:
لا ريبَ أنَّ القرآنَ المجيدَ من أعظم النِّعم الَّتي حبا اللهُ بها أهلَ الإسلام، فهو{يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[6] كما قال الله -عزَّ وجلَّ-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿57﴾ قُلْ بِفَضْلِ اللَّـهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[7].
وقد بشَّر النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلَّم- المتمسِّكين بالقرآن بالعزّةِ في الدُّنيا والآخرة، كما جاء في حديث عمر -رضي الله عنه- عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال:«إنَّ اللهَ يرفع بهذا الكتابِ أقوامًا ويضع به آخرين»[8] وفي حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول:«اقرؤوا القرآن فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»[9].
4- القرآن والتِّجارةُ الرَّابحة:
قال الله -عزَّ وجلَّ-:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴿29﴾ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[10]، وحسبُ المرءِ دلالةً على جلالة شأن القرآن ما أرشد إليه النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّ تلاوةَ القرآنِ والعملَ بهِ من أعظم القُرُبات الَّتي يُغبَطُ عليها المؤمن، فقد روى ابنُ عمر -رضي الله عنهما- عنِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال:«لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناءَ الليل وآناءَ النَّهار، ورجلٌ آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناءَ الليل وآناءَ النَّهار»[11].
فحذار من تضييع هذه التِّجارة الرَّابحة، كما قالالقرطبي: "ألا وإنَّ الحجةَ على مَن علِمَه فأغفله أوكدُ منها على من قصَّر عنه وجهِلَه؛ ومَن أُوتِيَ علمَ القرآنِ فلم ينتفعْ، وزجرَتْهُ نواهيهِ فلم يرتدعْ، وارتكب من الإثمِ قبيحًا، ومن الجرائم فضوحًا؛ كان القرآنُ حجةً عليه وخصماً لديه، قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:«والقرآن حجَّةٌ لك أو عليك» خرَّجه مسلم 223" [12].
5- فضل الإنصات إلى القرآن:
لا شكّ أنّ "الاستماع والإنصات مراتبُ بحسب مراتب المستمعين"[13] فقد روى البخاري في كتاب (التَّفسير) وفي (فضائل القرآن) باب (من أحبَّ أن يستمعَ القرآنَ من غيره) عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-:«اقرأ عليَّ، قلت: يا رسول الله، آقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: نعم، فقرأت سورة النِّساء حتَّى أتيت إلى هذه الآية:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان»[14].
وفي باب (البكاء عند قراءة القرآن) من (فضائل القرآن) قال -صلَّى الله عليه وسلَّم:«فإنِّي أحبُّ أن أسمعه من غيري»[15].
وقالابن بطَّال: "يحتمل أن يكون أحبَّ أن يسمعه من غيره؛ ليكون عرض القرآن سنةً، ويحتمل أن يكون لكي يتدبُّره ويتفهَّمه؛ وذلك أنَّ المستمع أقوى على التدبُّر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القاريء؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها" [16].
6- متى ننتفعُ بالقرآن؟
قالابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: "إذا أردتَ الانتفاعَ بالقرآن؛ فاجمعْ قلبَكَ عند تلاوتِهِ وسماعِه، وألْقِ سَمْعَكَ، واحضرْ حضورَ مَن يخاطبه به مَن تكلَّم به -سبحانه- منه إليه؛ فإنه خطابٌ منه لك على لسان رسولِه، قال -تعالى-:{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[17] وذلك أنَّ تمام التَّأثير لمَّا كان موقوفًا على مؤثِّرٍ مُقْتَضٍ ومحلٍّ قابلٍ وشرطٍ لحصول الأثر وانتفاء المانع الَّذي يمنع منه؛ تضمَّنت الآية بيانَ ذلك كلِّه بأوجز لفظٍ وأبْيَنِهِ وأدَلِّهِ عن المُراد. فقولُهُ:{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ} إشارةٌ إلى ما تقدَّم من أوَّل السُّورة إلى هاهنا وهذا هو المؤثِّر، وقولُهُ:{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} فهذا هو المحلُّ القابلُ، والمراد به القلبُ الحيُّ الَّذي يعقل عن الله كما قال -تعالى-: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴿69﴾ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا}[18] أي حيّ القلب. وقوله:{أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي: وجّه سمعَه وأصغى حاسّةَ سمعِهِ إلى ما يُقال له؛ وهذا شرطُ التأثُّر بالكلام. وقولُه:{وَهُوَ شَهِيدٌ} أي شاهدُ القلب، حاضرٌ غيرُ غائبٍ، قالابن قتيبة: "استمع كتابَ الله وهو شاهدُ القلبِ والفهمِ، ليس بغافلٍ ولا ساهٍ، وهو إشارةٌ إلى المانع من حصول التَّأثير، وهو سَهْوُ القلب وغفلتُهُ عن تعقُّلٍ ما يُقالُ له والنظرِ فيه وتأمُّلِهِ، فإذا حصل المؤثِّرُ: وهو القرآنُ، والمحلُّ القابلُ: وهو القلبُ الحيُّ، ووُجِد الشرطُ: وهو الإصغاءُ، وانتفى المانعُ: وهو اشتغالُ القلبِ وذهولُهُ عن معنى الخطابِ وانصرافُهُ عنه إلى شيءٍ آخر؛ حصل الأثرُ: وهو الانتفاعُ والتذكُّر"[19].
7- استماعُ القلوبِ
لقد صرَّح القرآنُ بأنَّ منَ القلوب ما لا يبلغها نورُ الآيات؛ لأنَّ عليها غطاءً وطابعًا، كما قال الله -تعالى-:{لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}[20]، وقال -جلَّ جلاله-:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[21].
وقال -تبارك وتعالى-:{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ}[22]، وقال -سبحانه-:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}[23].
وقالابن الجوزي: "ذكر أهلُ التَّفسير أنَّ السَّماع في القرآن على وجهين: أحدهما: إدراكُ السَّمعِ للمسموعات، ومنه قولُه -تعالى- في آل عمران:{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي}[24]، والثَّاني: سماعُ القلب: وهو قبولُه للمسموع، ومنه قولُه -تعالى- في سورة هود:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}[25] وفي الكهف[26]:{وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}[27].
8- بُشرى المستمِع العامل بالقرآن:
كما قال الله -تبارك وتعالى-:{فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّـهُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[28] قال الشّيخابن عاشور: "دلَّ ثناءُ الله على عباده المؤمنين الكُمَّل: بأنَّهم أحرزوا صفة اتباع أحسنَ القولِ الَّذي يسمعونه على شرف النَّظر والاستدلال؛ للتَّفرقة بين الحقِّ والباطل، وللتَّفرقة بين الصَّواب والخطأ، ولغلق المجال في وجه الشُّبهة ونفي تلبُّس السَّفسطة"[29].
وكذلك قولُه -جل جلالُه-:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿29﴾ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿30﴾ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّـهِ..}[30].
9- كيف ننصحُ لكتابِ الله:
قالالإمام النَّووي -رحمه الله-: "قد أوجب الله -سبحانه وتعالى- النُّصح لكتابه، ومنَ النَّصيحة له بيان آداب حَمَلَته وطلّابه، وإرشادهم إليها، وتنبيههم عليها"[31]. وزاد في شرح مسلم استيعابًا فقال: "أمَّا النَّصيحة لكتابه -سبحانه وتعالى-: فالإيمان بأنَّه كلام الله -تعالى- وتنزيله لا يشبهه شيءٌ من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثمَّ تعظيمه وتلاوته حقَّ تلاوته وتحسينها، والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التِّلاوة، والذَّبُّ عنه لتأويل المحرِّفين وتعرض الطَّاعنين، والتَّصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهّم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتَّفكُّر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتَّسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ونشر علومه، والدُّعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته"[32].
10- تدبُّرُ القرآن:
وهذا التَّدبُّر لا يتأتَّى لنفاستِهِ وعُلُوِّ شأنِهِ إلا لمن آتاه اللهُ علمًا وصلاحًا؛ فعلى قدرِ ذلك يكون تدبُّرُه لكتابِ الله -عزَّ وجلَّ، كما قالالطَّبري: "إنِّي لأعجبُ ممَّن قرأ القرآنَ ولم يعلمْ تأويلَه؛ كيف يلتذُّ به؟"[33]، وقالالزّركشي: "مَنْ لم يكنْ له علمٌ وفهمٌ وتقوًى وتدبُّر؛ لم يُدركْ من لذَّةِ القرآنِ شيئًا"[34].
فعلى الصَّائم أن يتدبَّرَ الآياتِ، ويبكي عند الوعيدِ والعِظاتِ، ويخشعَ عند التَّلاوة، ويجدُّ في تحصيلِ حلاوةِ المناجاة، ويُكثِر منَ التَّضرُّعِ والبكاء؛ فالبكاء كما قالالنَّووي -رحمه الله-: "صفة العارفين، وشعارُ عبادِ اللهِ الصَّالحين؛ قال الله -تعالى-: { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109][35].
----------------------------------------
[1] متَّفقٌ عليه واللفظ للبخاري 3554.
[2] مفتاح دار السَّعادة لابن القيم ص 221. نقلا عن تدبر القرآن سلمان بن عمر السّنيدي ص 19. ط1. 1422.
[3] المرجع السَّابق 1/44-45.
[4] لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 186-188.
[5] المرجع السَّابق ص 185-186.
[6] سورة الإسراء: 9.
[7] سورة يونس: 57-58.
[8] رواه مسلم 817.
[9] الحديث في صحيح مسلم 804.
[10] فاطر 29-30.
[11] رواه الشَّيخان.
[12] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/2. مكتبة الغزالي دمشق.
[13] تفسير التحرير والتنوير 9/239. للشيخ محمد الطاهر بن عاشور. دار سحنون للنشر والتوزيع. تونس.
[14] رواه البخاري 5050.
[15] رواه البخاري 4582.
[16] الفتح10/121.
[17] سورة ق: 37.
[18] سورة يس: 69-70.
[19] الفوائد لابن القيّم ص 9-10. دار الكتب العلميّة بيروت. ط6. 1420 هـ.
[20] سورة الأعراف: 100.
[21] سورة الأعراف: 179.
[22] سورة فُصِّلت: 4.
[23] سورة فصّلت: 44.
[24] سورة آل عمران: 193.
[25] سورة هود: 20.
[26] الكهف: 101.
[27] نزهة الأعين النَّواظر في علم الوجوه والنَّظائر لابن الجوزي ص 346 مؤسسة الرِّسالة ط1 1405 هـ.
[28]سورة الزُّمر: 17-18.
[29] تفسير التَّحرير والتَّنوير23/367.
[30] سورة الأحقاف: 29-31.
[31] التّبيان في آداب حَمَلَة القرآن ص5.
[32] شرح النَّووي على مسلم 2 / 38 39.
[33] معجم الأدباء 18/63. نقلًا عن تدبُّر القرآن للسّنيدي ص 4.
[34] البرهان في علوم القرآن للزّركشي 2/171. دار الفكر بيروت. ط1. 1408 هـ.
[35] التّبيان ص 45-46.
نور الهدى- المدير التنفيذي
- عدد المساهمات : 4560
نقاط : 35847
العمر : 41
تاريخ التسجيل : 25/02/2010
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى